
العلاقة المعقدة بين إسرائيل والعالم.. القانون الدولي ساحة صراع
جدول المحتويات
واجهت إسرائيل في حرب الإبادة المستمرة على غزة، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وضعية دولية “غير مسبوقة” في تاريخها، بعد أن أصبح رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو ووزير أمنها السابق يوآف غالانت مطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، تزامنًا مع توجيه اتهام رسمي لها بارتكاب جرائم إبادة، في القضية التي رفعتها ضدها جنوب إفريقيا وانضمت لها مجموعة من الدول، أمام محكمة العدل الدولية، تزامنًا مع حراك دولي واسع في أوساط مختلفة دعمًا للفلسطينيين وللمطالبة بمقاطعة إسرائيل ومحاكمتها(1).
لكن هذا الوضع قد لا يكون بجديد، إذ لطالما حكمت العلاقة بين إسرائيل والمنظومة الدولية بما فيها القانونية حالة من “التعقيد”، منذ بدايات الحركة الصهيونية التي حظيت برعاية بريطانية، ثم إقامة إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني، عقب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة، الذي لم تلتزم به القيادة الإسرائيلية واحتلت المناطق المصنفة ضمن أراضي الدولة الفلسطينية، ثم طوال عقود رفضت الالتزام بقرارات الانسحاب من الأراضي المحتلة في 1967، ورغم ذلك حظيت بالدعم الأميركي في المقام الأول، واعتبرتها المنظومة الغربية منها وقدمت لها المساندة والعلاقات الاستراتيجية.
استمرّ جوهر المشروع الاستعماري القائم على أرض أكثر مع سكان أقل، في وسط منظومة تحاول “شرعنة” نفسها وسط النظام الدولي، مع خطاب قوة يرتكز على أن “الجيش” هو الذي يحقق الأهداف، كما جاء في مقال لديفيد بن غوريون يتمحور حول أن “الأمم المتحدة لا تحمي إسرائيل”، اتفق معه موشيه شاريت وزير الخارجية ورئيس الحكومة السابق في فكرته لكنه جادل حول “هل تشن إسرائيل عملية عسكرية ضد العرب دون اعتبار وجود الأمم المتحدة”(2).
باختصار، تتعامل إسرائيل مع القانون الدولي والقضايا المرفوعة ضدها أمام الهيئات الدولية، في سياق “حربي/ عدائي”، فهي لا تتوقف عند الحدود القانونية بل تراها ضمن مسار لـ”نزع الشرعية” عنها في العالم، وتعتبر أن أعداءها يخوضون “حربًا” ضدها باستخدام قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني، وهو ما تسميه “الحرب متعددة الأبعاد” التي يقع البعد القانوني فيها مع مسارات أخرى فيها “العسكري والسياسي والدبلوماسي وحركة المقاطعة” وغيرها(3).
“جيش أخلاقي يلتزم بالقانون الدولي”
في خطاب أمام مؤتمر “هرتسيليا”، في مايو/ أيار 2023، تفاخر رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، هرتسي هليفي، بأن الاغتيالات التي نفذها ضد قيادات في حركة الجهاد الإسلامي، في عملية أطلق عليها “الدرع والسهم”، نفذت بـ”حرفية” باستخدام وسائل حربية قللت من “الأضرار الجانبية” في إشارة إلى الأطفال والمدنيين، في سياق محاولة تقديم “جيش أخلاقي يلتزم بالقانون الدولي”، رغم أن القادة المستهدَفين قضوا مع عدد من أطفالهم وزوجاتهم وأفراد من جيرانهم(4).
كذلك، تفصح تصريحات رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، أفيف كوخافي، أمام مؤتمر لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي، في 2021، عن الهدف المركزي من التزام خطاب “القانون الدولي” من قادة عسكريين إسرائيليين، وهو أساسًا استشعار الخطر على الضباط والجنود من الملاحقة القضائية الدولية(5)، بما يهدد “شرعية” العمل العسكري الإسرائيلي. فخلال خدمته العسكرية، كان كوخافي يدعو صراحةً إلى “الفتك” والاستخدام القاسي والمركز لأنواع الأسلحة، وهو ما عبّر عنه في تهديداته للمدنيين في غزة ولبنان.
وتواجه “قوننة” العمليات العسكرية الإسرائيلية رغم ما تنطوي عليه من تحايل على القانون الدولي، بشهادة متخصّصين وخبراء قانونيين، معارضة لجهة أنها “تؤثر على حرية الجيش في تنفيذ ما يجب عليه لتحقيق النصر”، كما يقول جزء من (اليمين) الإسرائيلي، بينما يجادل المؤيدون وهم في الغالب ضباط سابقون خدموا في الأجهزة القضائية داخل الجيش، أن “أخذ القوانين الدولية في الاعتبارات العسكرية” لا تتعارض مع معادلة “دعوا الجيش ينتصر”، وهو الشعار الذي حقق انتشارًا كبيرًا بين الإسرائيليين، في حرب الإبادة على غزة(6).
لطالما حكمت العلاقة بين إسرائيل والمنظومة الدولية بما فيها القانونية حالة من “التعقيد” – غيتي
ما هو القانون الدولي الإنساني؟
القانون الدولي الإنساني أو قانون الحرب هو المعاهدات الدولية (اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها)، التي تطورت عبر مراحل مختلفة في التاريخ الدولي، منذ 1815، رغم أن تاريخ البشر عرف قوانين للحرب منذ العصور القديمة وفي الكتب الدينية، لكنها في هذه المراحل خاصة بعد الحربين العالميتين، أخذت شكلاً أكثر تنظيمًا ظهرت معها مؤسسات إنفاذ قانونية، ولكن الجدال ما زال حول مدى إلزاميتها للدول وقدرتها على ملاحقة المتورطين في جرائم الحرب من القادة والرؤساء.
وينظم القانون الدولي الإنساني طريقة سير الحرب ويعمل على حماية المدنيين والأطراف غير المشاركة في الأعمال العدائية، مثل الطواقم الطبية والإغاثية، والأشخاص الذين توقفوا عن المشاركة في القتال، مثل الجنود الجرحى والمرضى وأسرى الحرب، والمؤسسات المدنية مثل المستشفيات والمدارس وغيرها(7).
أجهزة قانونية في خدمة العمل العسكري
قبل 1948 تشكل داخل “الهاغاناة” جهاز شبيه بالنيابة العسكرية مختص بمحاسبة الجنود على “خرق القواعد والقوانين”، وتذكر وثائق إسرائيلية أن ديفيد بن غوريون كلّف يعقوب ريفتين أحد أعضاء اللجنة الأمنية حينها، بتقديم تقرير حول “الانتهاكات والخروقات” من قبل القوات الصهيونية حينها، وكانت هذه أيضًا نواة لجهاز النيابة العسكرية أو “الخدمة القانونية”.
وتشير إحصائية إلى أن النيابة أصدرت 2424 حكمًا قضائيًا في الفترة بين يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز 1948، لكن الغالبية العظمى منها لم تكن على خلفية “جرائم حرب”(8)، رغم أن الوثائق التاريخية والشهادات الفلسطينية والإسرائيلية تؤكد على ارتكاب مجازر في القرى والمدن الفلسطينية، خلال الحرب، إلا أن الوثائق نفسها تثبت أن هذا السلوك كان بتوجيه عام من قيادة إسرائيل حينها لإجبار مئات آلاف الفلسطينيين على الهجرة والسيطرة على أراضيهم.
تتعامل إسرائيل مع القانون الدولي والقضايا المرفوعة ضدها أمام الهيئات الدولية، في سياق “حربي/ عدائي”، فهي لا تتوقف عند الحدود القانونية بل تراها ضمن مسار لـ”نزع الشرعية” عنها في العالم، وتعتبر أن أعداءها يخوضون “حربًا” ضدها باستخدام قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني
ودفع صعود الاهتمام الدولي بحقوق الإنسان والالتزام بقوانين الحرب، جيش الاحتلال إلى توسيع آليات الاهتمام بالقانون الدولي، حيث أقام قسمًا خاصًا داخل النيابة العسكرية يعرف بـ”شعبة القانون الدولي/ דבל”א”، يشارك في صياغة الخطط العملياتية وتقديم الاستشارات والتواصل مع المؤسسات الدولية، ويدخل ضمن منظومة عمل لمواجهة الملاحقة الدولية لإسرائيل، مع قسم القانون الدولي في وزارة الخارجية، والمستشار القضائي للحكومة، والإدارة الاستراتيجية في الخارجية، والسفارات الإسرائيلية حول العالم(9).
وقد شارك ضباط وحدة “القانون الدولي” في جيش الاحتلال في غرف العمليات، لإعطاء “شرعية” خاصة للاغتيالات، كما في حالة انتفاضة الأقصى، التي شهدت تفعيلاً واسعًا لعمليات تصفية القيادات الفلسطينية، إذ نفذت إسرائيل من خلال أجهزتها القانونية والعسكرية عملية “قوننة” للاغتيالات التي تطلق عليها “القتل المستهدف”، من خلال مزاعم قانونية تندرج في إطار “القنبلة الموقوتة” التي تستند على زعم أن الاغتيال “استباقي لمنع الشخصية المستهدفة من تنفيذ هجمات ضد الإسرائيليين”.
ينظم القانون الدولي الإنساني طريقة سير الحرب ويعمل على حماية المدنيين والأطراف غير المشاركة في الأعمال العدائية -غيتي
“شرعنة” الاغتيالات من قبل ضباط “القانون الدولي”
تحضر قضية اغتيال قائد كتائب القسام في الانتفاضة، صلاح شحادة، بعد قصف بناية سكنية في حي الدرج في مدينة غزة، في يوليو/ تموز 2002، بوصفها مثالاً هامًا على طريقة “شرعنة” الاغتيالات من قبل ضباط “القانون الدولي”، في جيش الاحتلال.
في هذا السياق، يروي الصحفي المتخصّص في الشؤون الاستخباراتية والأمنية، رونين بيرغمان، في كتابه “انهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الاسرائيلية”، أن قسم القانون الدولي حضر في نقاشات عملية الاغتيال داخل غرفة العمليات التي تضم ضباطًا من مختلف الأجهزة الإسرائيلية بينها المخابرات “الشاباك”، وكان يحصل على ملفات لكل حالة تقرر اغتيالها للحكم عليها. وفي حالة صلاح شحادة، برزت مزاعم مثل أن “الأكواخ في محيط البناية المستهدفة تكون فارغة”، ونفذت العملية واستشهد شحادة مع عدد من الأطفال والمدنيين بينهم زوجته(10).
ومن بين مشاركات ضباط شعبة القانون الدولي في التحايل على القانون الدولي، تبرز أيضًا شرعنة الهجوم على حفل تخرج لكوادر في الشرطة الفلسطينية، في قطاع غزة، في بداية عدوان 2008 – 2009، تحت زعم أن القوة الشرطية “ضمن القوات المعادية التي قد تنتقل من العمل المدني إلى القتال في حال دخول قوات الجيش الإسرائيلي إلى القطاع”، رغم أن المنظومة الدولية تصنف الشرطة على أنها جهاز مدني.
وتؤكد مختلف التفسيرات التي أصدرتها الشعبة أنها تعتمد التساهل في تفسير القانون الدولي كما عبر عنها ضابط في الشعبة: “هدفنا ليس تقييد الجيش بل تزويده بالأدوات اللازمة للانتصار بطريقة قانونية”. ومن جهته، يكشف الرئيس السابق للشعبة دانييل رايزنر عن جزء من هذه السياسة بقوله: “دافعنا عن سياسات تقع على الحافة: سياسة الجار، هدم المنازل، الترحيل، الاغتيالات المستهدفة. نحن هيئة تُقيد ولكن لا توقف. إذا قال الجيش: هذا حل سحري، فأسأل هل هذا ضمن المجال الممكن؟ إذا كان في المنطقة الرمادية، سأشارك في اتخاذ القرار، ولن أوقف التنفيذ(11).
لجان وهيئات دون محاسبة
وجه تقرير “غولدستون” الصادر عن لجنة كلفتها الأمم المتحدة للتحقيق في حرب 2008-2009 الإسرائيلية على غزة، ضربة لإسرائيل من خلال تأكيده على أنها ارتكبت جرائم حرب، وفي الحروب والعمليات العسكرية اللاحقة على القطاع كانت التقارير والمواقف الدولية تؤكد على الموقف نفسه(12).
وقد حاول الاحتلال اتخاذ إجراءات إدارية وقانونية لمواجهة هذا التحدي القانوني الذي يضعه في إطار ضرب “شرعية” عملياته العسكرية كما عبَر عنه رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، غادي آيزنكوت، في الوثيقة الاستراتيجية التي وضع فيها أفكاره العسكرية والتنظيمية والسياسية لتطوير الجيش في مواجهة الجبهات المتعددة، وجاءت بعد تقرير لمراقب الدولة الإسرائيلي حينها انتقد فيه “قصور آليات تطبيق القانون الدولي داخل الجيش” بناء على تجربة حرب 2014.
ومن بين هذه الأفكار:
– تشكيل لجان مثل لجنة “تيركل” أو (اللجنة العامة لفحص الحدث البحري في 2010) بعد العدوان على سفينة مرمرة التركية، وقد سلط تقريرها على “إشكاليات إنفاذ القانون العسكري” فيما يتعلق بمحاسبة الجنود والضباط والتحقيق في شبهات الجرائم وفي 2013 شكل لجنة بقيادة يوسف تشخنوفر لفحص تطبيق توصيات لجنة “تيركل”(13).
– الإعلان عن فتح تحقيقات مع ضباط وجنود كتلك التي فتحها المدعي العام العسكري الرئيسي أفيخاي ماندلبليت بعد تقرير “غولدستون” الذي وصفه بأنه “شرير”، والهدف هو إعطاء رواية للعالم أن “الجهاز القضائي الإسرائيلي متين وقادر على محاسبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب” من أجل استخدام مبدأ “التكاملية” في الالتفاف على القضايا المرفوعة أمام المحاكم الدولية(14).
– تشكيل هيئات مثل “الآلية العسكرية لفحص الأحداث الاستثنائية”(15)، بعد عدوان 2014، بهدف فحص “الشبهات المتعلقة بانتهاك القانون الدولي خلال عمليات عسكرية كبيرة قبل اتخاذ القرار بفتح تحقيق جنائي”، بعد أن كانت النيابة العسكرية تعتمد آلية “التحقيق العملياتي”(16) التي اتهمتها منظمات بأنها تمنح الجنود حصانة ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين.
ولم تكن الآلية الجديدة أفضل وسجلت منظمات حقوقية أنها تعطل التحقيق في الجرائم، من خلال إطالة مدة فحص الحالات، بما يخالف المعايير الدولية وتوصيات اللجان الإسرائيلية نفسها. وبعد عقد على عدوان 2014 ما زالت الآلية تفحص في حوادث وقعت فيها بالإضافة إلى الدور المزدوج لها الذي لا يتوقف على فحص شبهات “انتهاك القانون الدولي” بل أخذ العبر العسكرية من العمليات خلال الحرب.
– تنظيم مؤتمرات وفعاليات مع منظمات دولية ومحاولة الرد على الاتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب عبر منصات دولية وتقديم رواية إسرائيلية تتهم التنظيمات المعادية لإسرائيلية بأنها “تستخدم الوسط المدني لنشاطها العسكري” وأن العمليات العسكرية الإسرائيلية تستهدف “أهدافًا عسكرية” حتى وإن كانت مستشفيات أو مدارس لأن “استخدامها من قبل التنظيمات أخرجها عن صفتها المدنية” وفقًا للمزاعم الإسرائيلية(17).
– توسيع مشاركة شعبة القانون الدولي والأقسام المختلفة المتعلقة بهذا المسار في تخطيط العمليات وتقديم مصطلحات قانونية مثل “النقر على السطح” وهي الآلية التي يزعم جيش الاحتلال أنه يستخدمها لتحذير سكان البنايات قبل تدميرها رغم أن المؤسسات القانونية تؤكد أن هذا الإجراء تسبب بخسائر بين المدنيين(18).
– صياغة تبريرات عسكرية وقانونية للعمليات العسكرية ضد الفلسطينيين كما في توصيف الصراع خلال انتفاضة الأقصى على أنه “حالة نزاع مسلح” و”حالة حرب على الإرهاب”، والتشكيك بأن اتفاقية جنيف تنطبق على قطاع غزة، وغيرها من آليات الالتفاف على النصوص القانونية(19).
استخدام “القانون الدولي” في الإبادة
تحايل الاحتلال على جملة من قواعد القانون الدولي في حرب الإبادة على قطاع غزة، وفقًا لما يلي:
1- الضرورة العسكرية
استخدم الاحتلال القاعدة التي تنص عليها اتفاقية جنيف، “في حالة وجود شك فيما إذا كان أحد الأعيان المخصصة عادة لأغراض مدنية.. يستخدم لتقديم مساهمة فعالة في العمل العسكري فإنه يفترض اعتبار أنه لا يستخدم على هذا النحو” على النقيض منها.
فقد برّر عمليات الإبادة في غزة تحت زعم أنها استهداف لـ”الأصول العسكرية” لحماس والمقاومة الفلسطينية، وأباح لنفسه تدمير عشرات الشقق السكنية في أبراج كاملة بزعم أن شقة واحدة فقط تستخدم “لأغراض عسكرية”، واستخدم الذكاء الصناعي في توليد آلاف الأهداف التي أكدت المصادر الحقوقية على أنها مدنية(20).
2- التناسب
تنصّ القاعدة على أن العمل العسكري يجب أن يحترم “التوازن بين الهدف والوسيلة” بهدف تقليل الخسائر في صفوف المدنيين، لكن جيش الاحتلال استخدمها في تبرير عمليات القتل الجماعي التي ينفذها للفلسطينيين في غارات يزعم أنها استهدفت “قيادات وكوادر في الفصائل الفلسطينية”.
وأصبح قتل مئات الأطفال والنساء والمدنيين مبرّرًا وشرعيًا في سبيل اغتيال شخصية قد تكون ضمن جهاز مدني أو سياسي لا علاقة له بالعمل العسكري، كما في اغتيال قيادات العمل الحكومي في القطاع في شهر مارس/ آذار الماضي داخل منازلهم وبين عائلاتهم.
أباح الاحتلال لنفسه تدمير عشرات الشقق السكنية في أبراج كاملة بزعم أن شقة واحدة فقط تستخدم “لأغراض عسكرية” – غيتي
3- تدابير حماية المدنيين
يوفر القانون الدولي حماية للأشخاص غير المنخرطين في القتال، وينص على إجلائهم خلال المعارك بشروط بينها عدم تشريدهم وتوفير الحماية لهم والمناطق الآمنة والمواد الغذائية.
إلا أن الاحتلال استخدم آلية الإخلاء إلى عملية تهجير لمئات آلاف الفلسطينيين من مدينة غزة وشمالها، واستهدف مركبات على طريق النزوح نحو الجنوب، وقتل مئات المدنيين عليه قصفًا وقنصًا، واعتقل عددًا منهم وعذبهم، ولاحقًا نفذ غارات ومجازر في المنطقة التي زعم أنها “إنسانية” وآمنة، وخلافًا للقانون الدولي هاجم الفلسطينيين الذين بقوا في الشمال وقطع عنهم المساعدات وحاصرهم(21).
“محامو الحروب”.. شرعنة الإبادة
تشير هذه الأنماط من استخدام القانون الدولي في عمليات الإبادة الجماعية، إلى ازدواجية السلوك الإسرائيلي، في منظومة استعمارية بدأت بتشريد مئات آلاف الفلسطينيين، في 1948، ثم احتلت بقية فلسطين، في حرب 1967، وواصلت سياسة التهجير والاستيطان ومختلف جرائم الحرب. ويتبنى طيف من قادتها خطابًا توراتيًا في قالب صهيوني قومي يرى الفلسطينيين والعرب أعداء دائمين ومستباحين، بعد نزع الصفة الإنسانية عنهم، وفي الوقت ذاته تحرص إسرائيل على تقديم ذاتها للعالم في صورة الحريص على “القانون الدولي” والمنخرط في ترتيبات “العالم الليبرالي الغربي”.
في كتابه “محامو الحرب”(22)، يسلط كريغ جونز الباحث في القانون الدولي وعلاقته بالحروب، الضوء على ما يفعله المحامون وضباط القانون الدولي في الجيوش، خصوصًا الجيش الأميركي والإسرائيلي من تفسير للنصوص القانونية بما يتيح استهداف المدنيين، ويصبح معه القانون الدولي وسيلة لتحقيق الأهداف العسكرية بدلاً من أن يكون قوة مقيدة لها. وهو ما تؤكده تصريحات للقائد السابق لشعبة القانون الدولي في الجيش الإسرائيلي، دانييل رايزنر، اعتبر فيها أن “الممارسة المستمرة لذات الفعل يجعله مقبولاً من العالم”. ويشير إلى عمليات نفذتها إسرائيل في السابق مثل الاغتيالات وقصف المفاعل النووي العراقي أثارت غضب المجتمع الدولي قبل أن “تصبح مقبولة”، ويقول: “كل القانون الدولي مبني على ممارسات تخلق سوابق، عندما بدأنا بتعريف الصراع مع الفلسطينيين كصراع مسلح، كان ذلك تحولًا دراماتيكيًا. احتجنا إلى أربعة أشهر وأربعة طائرات لتغيير رأي الولايات المتحدة”(23).
المراجع
(2) يوميات شخصية، موشيه شاريت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996، ص 166.
(3) كما في الوثيقة الاستراتيجية لرئيس أركان جيش الاحتلال السابق غادي آيزنكوت في 2015 الذي اعتبر الملاحقة القانونية الدولية للجنود الإسرائيليين على أنها “محاولة لنزع الشرعية”.
(17) كما في مقال آلان بيكر المستشار القانوني السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية على العدد 888 من مجلة الصليب الأحمر الصادرة في شتاء 2012،
(19) الآثار القانونية المترتبة على اعتبار قطاع غزة كيان معادي في نظر القانون الدولي الإنساني، فادي شديد، جامعة النجاح.
(20) التمويه الإنساني: إسرائيل تعيد كتابة قوانين الحرب لإضفاء الشرعية على الإبادة الجماعية في غزة، لويجي دانييلي ونيكولا بيروجيني وفرانشيسكا ألبانيز، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2024
(21) مرجع سابق، التمويه الإنساني، مؤسسة الدراسات الفلسطينية
(23) تقرير على “هآرتس”، مرجع سابق.
No Comment! Be the first one.