قانون الإعلام الجديد .. قراءة أولية
يبقى تنظيم الإعلام أحد أهم أركان بناء المجتمعات الحديثة التي تسعى إلى توظيف كافة الإمكانات والثروات الاتصالية المتاحة والاستفادة منها، في إطار سعيها نحو الوصول إلى التنمية الشاملة وتحقيق رؤاها المستقبلية.
في عالم يشهد تغيرات تكنولوجية سريعة ومتتالية منذ مطلع الألفية الثالثة، وعلى مدى سنوات ظل الإعلام العُماني يعمل في ظل قانون يعود إصداره إلى ما قبل أربعين عاما من الآن، إلى أن صدر هذا الأسبوع قانون الإعلام الجديد الذي طال انتظاره. يؤرخ هذا القانون لفترة جديدة في التشريع الإعلامي في سلطنة عُمان الذي يعود إلى بدايات النهضة المباركة وتحديدًا إلى عام 1975، وليفتح المجال واسعًا أمام ظهور المزيد من المنصات الإعلامية التي تقدم خدمات إعلامية متميزة لمواطني الدولة والمقيمين فيها، وتحقق السيادة الوطنية على كل ما يبث من أخبار وآراء وأفكار سواء من الداخل أو الخارج، كخطوة ضرورية لتحقيق الأمن الإعلامي.ودون الدخول في تفاصيل جزئية كثيرة، فإنني أتوقف في هذه القراءة الأولية للقانون الجديد عند الجوانب الإيجابية التي جاء بها دون التوقف أمام بعض المسائل الخلافية التي ليس مجالها مقالات الصحف.
بادئ ذي بدء، يمكن القول إن القانون الجديد جاء جامعًا وشاملًا لكل أشكال وأنماط الإنتاج الإعلامي والفني، ومواكبًا للتقنيات الجديدة التي أتاحت للمواطن الفرد أن يكون مواطنًا صحفيًا ولو لبعض الوقت يستطيع أن ينشر الأخبار والآراء عبر المنصات المختلفة وعلى حساباته الخاصة على شبكات التواصل الاجتماعي. الشمول الذي يتميز به القانون الجديد لا يقتصر فقط على الجمع بين مؤسسات الإنتاج الإعلامي التقليدية والجديدة ولكن أيضا في الجمع بين الأنشطة التي تقوم بها وسائل الإعلام المعروفة من صحف ومحطات إذاعية وتلفزيونية ووكالات أنباء ودور نشر وشركات الدعاية والإعلان والمواقع والحسابات الإخبارية، وبين الأنشطة الإعلامية التي تمارسها وحدات الجهاز الإداري للدولة وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة التي تسري عليها أحكام القانون الجديد، وإن كان قد استثناها من الحصول على ترخيص من وزارة الإعلام للقيام بهذه الأنشطة مع التزامها فقط بإخطار الوزارة. ويفتح هذا الاستثناء، في تقديري، المجال واسعًا أمام هذه الوحدات لزيادة وتنويع أنشطتها الإعلامية، وهو ما يصب في النهاية في صالح الحراك الإعلامي المتوقع في المجتمع العُماني بعد صدور هذا القانون.ويُحسب للقانون الجديد أنه يجمع للمرة الأولى بين متفرقات العمل الإعلامي التي كانت متناثرة في قوانين أخرى. فبعد أن ألغت المادة الثالثة منه ثلاثة قوانين، هي قانون المطبوعات والنشر لعام 1984، وقانون الرقابة على المصنفات الفنية لعام 1997، وقانون المنشآت الخاصة للإذاعة والتلفزيون لعام 2004، نص القانون الجديد في مادته الثانية على أن أحكامه «تسري على جميع الأنشطة الاتصالية التي تتم في الدولة بشكل كلي أو جزئي وبشكل دائم أو مؤقت»، وخصص فصل مستقلًا للمطبوعات (الفصل الخامس)، وفصلًا للمصنفات الفنية (الفصل السادس).
يستحق قانون الإعلام الجديد إذن أن نحتفي به خاصة أنه يأتي بعد سنوات طويلة من صدور القانون السابق، لأسباب كثيرة لعل أهمها التغيرات الكبيرة التي شهدتها البيئة الإعلامية العالمية والمحلية من جانب، والتغيرات الجذرية على مستوى الوسائل والوسائط والمنصات وكذلك على مستوى الجمهور ووظائف الإعلام في المجتمع من جانب آخر.
هذا الاحتفاء لا يجب أن يقتصر على الإعلاميين وأساتذة وطلاب الإعلام فقط، ويجب أن يمتد ليشمل النخب الثقافية في المجتمع، خاصة أن القانون يتناول أيضًا المطبوعات والمصنفات الفنية، كما أنه يجب ألا يقتصر على الإشادة ببعض المواد التي تبعث على التفاؤل طالما أن الهدف الأسمى من هذا التشريع المهم هو تعبيد طريق المستقبل أمام الإعلام العُماني.
في تقديري أن أهم ما جاء به القانون الجديد هو النص صراحة في مادته الثالثة على كفالة «حرية الإعلام»، وتفصيل أركان هذه الحرية في 6 حريات وحقوق، تتوافق مع العهود الدولية في هذا المجال، وهي «حرية الرأي والتعبير باستخدام وسائل الإعلام، وحق الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين في ممارسة الأنشطة الإعلامية، وحقهم أيضا في الحصول على المعلومات وتداولها بطرق مشروعة، وحظر الرقابة المسبقة على ممارسة الأنشطة الإعلامية، بالإضافة إلى الحق في الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة، والحق في تلقي الرسائل المعرفية والإعلامية.
ويمكن القول إن مواد القانون، التي بلغت 60 مادة وتقع في سبعة فصول، تتوافق إلى حدٍ كبيرٍ مع النص الخاص والمفصل بحرية الإعلام، خاصة ما يتعلق منها بمحظورات النشر التي تقلصت في المادة الرابعة لتقتصر على «الإعلانات التي تتنافى مع الآداب العامة أو التي تهدف إلى تضليل الجمهور، وكل ما يتعلق بالتحقيقات والمحاكمات ما لم يكن النشر بناءً على حكم قضائي نهائي، والأخبار أو البيانات أو المعلومات التي تصدر وزارة الإعلام توجيها بحظر النشر فيها».
وإذا كان القانون قد قلّص إلى حد كبير ما نطلق عليه «الواجبات السلبية»، ونعني بها محظورات النشر (ثلاثة محظورات فقط) بعد أن كان القانون السابق يفرد لها عشر مواد كاملة، فإنه استعاض عن ذلك بتحديد الواجبات الإيجابية التي يجب أن يقوم بها الإعلام في المادة السادسة، لتشمل واجبات وطنية عامة على ممارسي الأنشطة الإعلامية الالتزام بها، مثل «أداء الرسالة الإعلامية بموضوعية وصدق، وتقديم الأحداث بحيادية تامة ومناقشة قضايا المجتمع بما يعكس تعدد وتنوع الآراء والأفكار شريطة نسبة تلك الآراء والأفكار إلى أصحابها، والعمل على إبراز التاريخ والحضارة العمانية والتراث والثقافة والفنون العُمانية، وإبراز التنمية الشاملة في الدولة، وتعزيز قيم المواطنة والانتماء، وتشجيع مواهب وإبداعات الشباب، ومواكبة التطور الفكري والعلمي، ونشر وبث التصريحات الرسمية والبلاغات التي تطلب وزارة الإعلام نشرها».
هذه الواجبات الإيجابية التي يفرضها القانون على ممارسي الأنشطة الإعلامية تبدو شديدة العمومية وغير قابلة للقياس، خاصة أن القانون لم يفرض أي عقوبات على من لا يلتزم بمراعاة هذه الواجبات، وإن كانت تصب في فكرة استمرار الالتزام بالدور التنموي التي أخلص الإعلام العُماني وما زال في أدائه له على مدار تاريخه.
بقي أن نشير إلى نقطة أخرى مضيئة في القانون الجديد للإعلام قد تكون لها تبعاتها الإيجابية على مجمل الأوضاع الإعلامية في سلطنة عُمان، وهي حظر الرقابة «المسبقة» على ممارسة الأنشطة الإعلامية التي وردت ضمن مكونات حرية الإعلام التي يكفلها القانون. هذا النص المهم يمكن أن يحسن إلى حدٍ كبيرٍ تصنيف عُمان في مؤشرات حرية الصحافة في التقارير الدولية، وهو أمر متوقع بعد صدور القانون الجديد بوجه عام.
إن القراءة الأولية لقانون الإعلام الجديد في عُمان تؤكد أننا أمام قانون إعلام عصري جامع وشامل، يمكن أن يشكل نقلة نوعية في مسيرة الإعلام العُماني خاصة في هذه المرحلة التي تشهد دخول أجيال جديدة إلى ساحة العمل الإعلامي، ودخول مئات الآلاف من الشباب إلى سوق استهلاك وسائل ومنصات الإعلام باحتياجات جديدة ورغبات متجددة. ويبقى الأمر مرهونًا بمدى دقة تطبيق هذا القانون والتسهيلات التي يمكن أن تتضمنها اللائحة التنفيذية للقانون، خاصة فيما يتعلق بإنشاء المنصات الإعلامية الجديدة التقليدية منها والجديدة.
No Comment! Be the first one.