
خطة ترمب تتحدى القانون الدولي وتدير ظهرها “للجميع”
ما إن بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب الحديث عن غزة المدمرة بعد الحرب ووصفها بـ”الحطام الكبير”، داعياً إلى “تطهيرها” و”إعادة توطين” جميع الغزاويين بصورة دائمة خارج القطاع باعتبارها “لفتة إنسانية”، لم يكن واضحاً للفلسطينيين والعالم إلى أي مدى كانت كلماته جدية، أو مرتجلة، أو خرجت منه كنوع من الضغط التكتيكي، إلا أنهم بعد تصريحاته خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الثلاثاء الماضي بأن تستقبل مصر والأردن أهالي غزة، وتدير الولايات المتحدة عمليات الإعمار داخل “ريفييرا الشرق الأوسط”، بدا كل شيء واضحاً وجدياً للغاية ومخيفاً للكثيرين منهم. وإلى جانب رفض الحلفاء والخصوم على حد سواء اقتراح الرئيس الأميركي لما يحمله من تهديد لاستقرار المنطقة، ويخاطر بتوسيع الصراع، وتقويض آفاق السلام والتعايش بين شعوبها، يرى مراقبون أن خطورة مقترح ترمب لا تكمن بكونه انقلاباً جذرياً هو الأكثر تطرفاً في الموقف الأميركي تجاه الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين منذ عام 1948، ولا من كونه يمحو إمكان تنفيذ مقترح حل الدولتين، بل لكون مقترحاته تنتهك المبادئ الأساسية للقانون الدولي، سواء في ما يتعلق بالسيطرة على الأراضي بالقوة، أو التهجير القسري للفلسطينيين، أو حرمانهم من العودة. وحذر وسطاء من مصر وقطر من أن اقتراح ترمب إخلاء القطاع والسيطرة عليه لتمكين إعادة الإعمار قد يعطل التقدم في اتفاق وقف إطلاق النار الهش وإطلاق سراح الرهائن بين إسرائيل وحركة “حماس” الذي أوقف حرباً استمرت 15 شهراً.
وأظهر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجرته القناة “13” الإسرائيلية في أعقاب إعلان ترمب عن رؤيته في شأن قطاع غزة ومقترحه في شأن تهجير الفلسطينيين أن ما يصل إلى 72 في المئة من الإسرائيليين يؤيدون الطرح الأميركي، على رغم شكوكهم في إمكان تطبيقه.
انتهاك صارخ
قانونياً تشير المادة “49” من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 إلى حظر عمليات النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سُكناهم إلى أراضٍ أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم أخطار النزاعات المسلحة، فيما يعد التهجير القسري وفقاً لأعراف المحكمة الجنائية الدولية من الجرائم ضد الإنسانية، والتي ترتكب لأغراض سياسية أو عرقية أو دينية في إطار هجوم واسع النطاق، وتقع ضمن زمرة جرائم الإبادة الجماعية، لأنها تتسبب في نقل المدنيين وأطفالهم قسراً إلى جماعات ومناطق أخرى بهدف التسبب بهلاكهم بصورة كلية أو جزئية، إلى جانب اعتبارها من جرائم الحرب لكونها من الانتهاكات الجسيمة لاتفاقات جنيف المنصوص عليها عام 1949. وتشير أدبيات الأمم المتحدة إلى أن جريمة التهجير القسري تتعارض مع الحق في الحياة والحق في عدم الخضوع لمعاملة قاسية أو لا إنسانية أو مهينة، كما أنها تحرم الأشخاص من حقهم في الأمن والحياة في مستوى معيشي ملائم، كونها تنتهك حقوق حرية التنقل واختيار مكان الإقامة والحق في التمتع بخدمات الصحة والتعليم والعمل. ولأن جريمة التهجير القسري تنطوي على حال من الإجبار والإرغام التي تهدد حياة المدنيين، وإمكان وصولهم إلى الغذاء والخدمات الصحية والتعليمية، فهم معرضون لفقدان أملاكهم ومدخراتهم وأعمالهم وأوراقهم الثبوتية وممتلكاتهم. ويؤكد القانون الدولي أن غزة جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يحق لإسرائيل قانوناً نقلها إلى أي جهة، بما في ذلك الولايات المتحدة، فيما يرى مراقبون أن محاولة ترمب إعلان السيادة الأميركية على القطاع قد تصنف كعملية ضم غير قانونية، وهو ما قد يعرض المسؤولين عنها للملاحقة القانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية، ووفقاً لما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة، فإن “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين يشكل “جريمة ضد الإنسانية”، بخاصة أن القانون الدولي يعد أي إجراء يؤدي إلى تفريغ الأراضي المحتلة من سكانها الأصليين بصورة دائمة، صورة من صور التطهير العرقي، كما تؤكد القوانين الدولية أن “التهجير القسري لا يقتصر على القوة المباشرة، بل يشمل التهديد بالعنف، والإكراه، واستغلال بيئة قسرية”، مما يعني أن أي مخطط للرئيس الأميركي الذي قد يجبر سكان غزة على مغادرتها تحت أي ظرف يصنف كجريمة دولية. كما يمثل تصريحه أنه “لا يتصور عودة سكان غزة بعد مغادرتهم”، متحدثاً عن إعادة توطينهم “بصورة دائمة”، انتهاكاً للمبادئ القانونية الدولية، التي تضمن حق النازحين في العودة إلى أراضيهم، وهو ما يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة في حق تقرير المصير.
وحذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” من أن خطة ترمب “تصعيد خطر يرقى لتطهير عرقي منهجي” لفلسطينيي القطاع، ويمثل “جريمة حرب”. قالت المنظمة الحقوقية في بيان إنه “في حال نفذت خطة الرئيس الأميركي في شأن سيطرة بلاده على قطاع غزة ووجوب نزوح السكان الفلسطينيين منه، فإن ذلك سيرقى إلى تصعيد خطر للنزوح القسري والتطهير العرقي في حق الفلسطينيين في غزة”. ووفقاً لما ذكرته مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة لما فقيه فإن ذلك “سيحول الولايات المتحدة من متواطئة في جرائم الحرب إلى ارتكاب الفظائع مباشرة”.
تحديات واسعة
على رغم كل تلك القوانين الدولية والتحذيرات حول أخطار وجريمة التهجير القسري لسكان القطاع وما تعرض له الاقتراح الأميركي من انتقادات واسعة على المستوى الدولي، وقع ترمب مرسوماً رئاسياً يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان الأممي، وآخر يقضي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية تستهدف أموالاً شخصية وتأشيرات أفراد مرتبطين بإجراءات أطلقتها المحكمة الجنائية الدولية، خصوصاً مذكرة التوقيف الصادرة في حق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي أكد بدوره خلال مقابلة مع قناة “فوكس نيوز” أنه “لا يوجد خطأ في فكرة ترمب لتهجير الفلسطينيين من غزة”، واصفاً إياها بـ”الفكرة الرائعة التي يجب دراستها وترويجها وتنفيذها لأنها ستخلق مستقبلاً مختلفاً للجميع”، في حين وصف الجنرال المتقاعد من الجيش الإسرائيلي غيورا آيلاند صاحب “خطة الجنرالات” في مقاله بصحيفة “يديعوت أحرونوت” خطة تهجير سكان قطاع غزة الأميركية بأنها “أكثر من منطقية” لاعتباره أن شبه جزيرة سيناء المصرية التي تكبر غزة من حيث الحجم بـ167 مرة، بإمكانها أن تحل مشكلة الاكتظاظ في غزة الذي يقدر بأنه أكبر من سيناء بـ500 مرة، قائلاً “إذا كان العالم كله يريد مساعدة الغزاويين البؤساء فإن الاتجاه الذي أشار ترمب إليه هو الاتجاه الصحيح”. وبحسب ورقة بحثية وضعها رئيس “المركز للتميز في الدراسات الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا (CEESMENA) في واشنطن جوزيف بيلزمان فإن التقديرات حول كلفة تهجير الغزاويين والبناء في القطاع تراوح ما بين 500 مليار وتريليون دولار، وفترة التنفيذ تراوح ما بين 5 و10 سنوات. ووفقاً لما ذكره المؤرخ الإسرائيلي للسياسة الأميركية والجيو – استراتيجية كوبي باردا خلال بودكاست “أميركا بايبي” في أغسطس (آب) الماضي، فقد نقل بيلزمان الخطة لترمب، في يوليو (تموز) 2024، وناقشها مع نتنياهو في نهاية الشهر نفسه، عندما زار الأخير الولايات المتحدة والتقى ترمب في مزرعته بولاية فلوريدا. وبحسب بيلزمان فإنه لن توافق أي جهة خاصة أو دولية على إعادة إعمار غزة في أعقاب الدمار الرهيب الذي ألحقته إسرائيل في القطاع خلال الحرب ما دامت شبكة الأنفاق المتشعبة لم تُدمَّر، مضيفاً خلال مقابلته مع باردا أن الطريقة الوحيدة لتنفيذ ذلك هي بواسطة إخلاء كافة الكتل الأسمنتية وإعادة البناء من جديد، بحيث يكون بالإمكان إعادة تدوير الأسمنت المدمر، شريطة ألا يبقى شيء من البناء الأفقي إلى عمق الأرض. وتتطرق الخطة، بالسماح لشركات خاصة بالمشاركة في الاستثمار إلى جانب هيئات دولية، مقابل حصولها على استئجار أراضٍ لـ50 عاماً، وبناء وإدارة مشاريع طوال الـ50 عاماً وفي نهايتها تسلم إلى هيئة عامة. وتنص خطة بيلزمان على تحويل غرب غزة إلى منطقة سياحية تبنى في شواطئها فنادق، بينما في القسم الشرقي من القطاع يتم بناء أبراج سكنية. وفي موازاة ذلك تستند المواصلات في القطاع كله إلى القطارات الخفيفة البلدية واستخدام المركبات الخاصة بالحد الأدنى إلى جانب بناء ميناء ومطار ومنشآت كهرباء وأخرى لتطهير الصرف الصحي. وتضيف الخطة أنه في حال عودة غزاويين إلى القطاع فإنه يجب إجراء تغيير جذري لجهاز التعليم واستيراد مناهج تعليم من روضة الأطفال وحتى الجامعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية مصطفى البرغوثي إن قرار الرئيس الأميركي فرض عقوبات على محكمة الجنايات الدولية يمثل “بطشاً بالقانون الدولي، وتكريساً لشريعة الغاب التي تضع إسرائيل وقادتها فوق كل القوانين والأعراف الدولية”، مؤكداً أن الولايات المتحدة وإسرائيل ليستا طرفين في نظام روما الأساس أو عضوين في المحكمة الجنائية الدولية، بالتالي فإن المحكمة لا تملك أي ولاية قضائية على البلدين”. ودعا مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” إلى إلغاء العقوبات على مسؤولي المحكمة الجنائية فوراً. وأشار في بيان إلى أن “الجنائية الدولية” تحظى بدعم ثلثي دول العالم، وتعد “مؤسسة محورية” في نظام العدالة الجنائية الدولية. بدوره أكد أمين عام جامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط أن إدخال المساعدات إلى غزة ومساعدة السكان على استعادة الحياة الطبيعية كفيل بإفشال المخطط الإسرائيلي بجعل القطاع غير قابل للحياة.
تحذيرات إسرائيلية
من جهته سارع وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس مساء أول من أمس الخميس إلى إصدار “خطة تهجير أهالي غزة”، وتشمل توفير إمكان المغادرة الطوعية لسكان القطاع، وذلك عبر ترتيبات تشمل المعابر البرية والمنافذ البحرية والجوية، قائلاً إنه يدعم ما وصفه بـ”الخطة الجريئة” للرئيس الأميركي، والتي تتيح “مغادرة طوعية” للفلسطينيين من القطاع “إلى أماكن مختلفة”، متهماً “حماس” بأنها “تمنع السكان من المغادرة، وتستغلهم كدروع بشرية”. واستبعد محللون في الصحف الإسرائيلية إمكان تنفيذ خطة تهجير سكان قطاع غزة، التي طرحها ترمب الثلاثاء الماضي. ووفقاً للمحلل السياسي في صحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم برنياع فإن “المسافة بين الفكرة وتنفيذها هي مثل المسافة بين الثريات المذهبة في الغرفة الشرقية في البيت الأبيض وبين الدمار الهائل في غزة، ولا توجد طريقة للجسر بينهما”. وذكرت الصحيفة أن مسؤولين في الجيش الإسرائيلي شككوا خلال اجتماعات سرية بخطة الرئيس الأميركي لتهجير سكان غزة وإمكان تنفيذها. ونقلت الصحيفة عن المسؤولين قولهم “لو لم تعرض الخطة بهذه الطريقة من قبل ترمب ولم يتم تأطيرها فوراً كعملية ترحيل وقوبلت بمعارضة حادة من الدول العربية، ربما كان من الممكن تحريك هذا المسار بهدوء نسبي وبصورة تدريجية وذكية”. وهنأ وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، كاتس، على إصداره تعليمات للجيش بإعداد خطة للسماح لسكان غزة بالمغادرة “طواعية”، قائلاً إنه “لا يوجد حل واقعي آخر من شأنه أن يضمن السلام والأمن لإسرائيل والرفاهية الشخصية لسكان غزة”.
من جهته يرى المحلل العسكري في صحيفة “يسرائيل هيوم” يوآف ليمور أن “خطة ترمب تواجه مشكلات قانونية تتمثل بمنع معاهدة جنيف الرابعة بوضوح نقل سكان من منطقة محتلة واقتصادية تتعلق بتمويل الخطة، خصوصاً بعدما أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن الولايات المتحدة لن تشارك بالتمويل”، متسائلاً حول “من سيشرف على خروج السكان؟ ومن سيحارب المسلحين الذين سيبقون في القطاع؟”. وأوضح ليمور أن “الخطة بعدما عارضها العرب والغرب قد تدفع آخرين إلى المطالبة بنقل اليهود من إسرائيل أيضاً”.
No Comment! Be the first one.