
تعزيز الاحترام للقانون الدولي الإنساني: انطلاقًا من القواسم المشتركة مع الشريعة الإسلامية
أصحاب السعادة، الضيوف الكرام،
إنه لمن دواعي سروري أن أحظى بشرف المشاركة في هذا المؤتمر الدولي للقانون الدولي الإنساني في ضوء الفقه الإسلامي الذي يُعقد في مدينة مسقط الجميلة. وأودّ أن أعرب عن خالص تقدير اللجنة الدولية للصليب الأحمر لسلطنة عُمان، ولكلية العلوم الشرعية التابعة لها، على هذه الدعوة الكريمة وحسن الضيافة.
واسمحوا لي أيضا أن أعرب عن تقديري لسعادة الشيخ عبد الملك بن عبد الله الخليلي، رئيس مجلس الدولة الذي تكرم برعاية هذا المؤتمر المُكرّس لهذا الموضوع الهام في عُمان، ليجمع شمل ثلة من العلماء المسلمين من جميع أنحاء العالم.
يأتي هذا المؤتمر في لحظة حرجة من الزمن، لا سيما بالنسبة للعالم العربي حيث يعاني ملايين المدنيين من العواقب الكارثية للنزاعات المسلحة. بدءا من غزة ولبنان وسوريا واليمن وصولا إلى السودان وما وراءها. تشكل هذه النزاعات حقيقة مأساوية لملايين الأطفال والشيوخ والنساء والرجال على حد سواء. وفي هذا السياق، يهدف القانون الدولي الإنساني إلى الحيلولة دون معاناة ضحايا الحروب والتخفيف من حدتها. كما يحدّ القانون الدولي الإنساني من التكاليف البشرية والاجتماعية والاقتصادية للحروب، ويمهد الطريق نحو السلام.
تلعب عُمان دورا مهما في هذا السياق، خاصةً وأنها تتمتع بتاريخ زاخر في برهنة مساهمتها في الحفاظ على الإنسانية في النزاعات المسلحة. فعلى سبيل المثال، في القرن التاسع بعد الميلاد، كتب الإمام السلط بن مالك الخروصي رسالة مطولة إلى المقاتلين في جزيرة سقطرى أمرهم من خلالها بالتمييز بين المقاتلين والمدنيين وحماية المدنيين. تعد رسالته هذه نموذجا يُحتذى به إزاء تطبيق القيم الأخلاقية لضبط النفس في الحروب. واليوم، وبعد الاطلاع على برنامج هذا المؤتمر، أستطيع أن أقول إن عُمان تستضيف المؤتمر الأكثر شمولا وجوهرية حول موضوع القانون الدولي الإنساني والشريعة الإسلامية حتى الآن. وتعرب اللجنة الدولية عن تقديرها لالتزام عُمان الطويل الأمد بتعزيز السلام واحترام القانون الدولي الإنساني.
وبحكم وجود موظفي اللجنة الدولية للصليب الأحمر في حوالي 120 بلداً يعاني النزاعات حول العالم، فإنهم يعملون على مساعدة الأشخاص المتضررين من هذه النزاعات وحمايتهم. إننا نشهد العواقب المروعة لانتهاكات القانون الدولي الإنساني مثل تشتت العائلات ومعاناتها من جراء عدم معرفة ما حدث لأحبائها المفقودين، أو تدمير المرافق الصحية دون توفر الرعاية الطبية، أو قتل الأطفال وتشويههم بسبب المتفجرات من مخلفات الحرب.
إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر مكلّفة بحماية القانون الدولي الإنساني والعمل على تعزيز احترامه ونشره. ونحن نعمل على ضمان الامتثال لنص وروح القانون وتخفيف المعاناة في النزاعات المسلحة. بالنسبة لنا، من الأهمية بمكان أن نجد وجهات نظر مشتركة حول منع انتهاكات القانون الدولي الإنساني وحماية كرامة الإنسان.
وتؤدي الأديان والمعتقدات، مثل الإسلام، دورا حيويا في هذا الصدد، خاصةً وأنها تملك سلطة أخلاقية تؤثر في مليارات الأشخاص حول العالم. وقد استلهمت العديد من قواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني من التعاليم الدينية العالمية؛ وبالتالي فهي تعكسها.
لقد طوّرت الشريعة الإسلامية حقا – باعتبارها إحدى أقدم الأنظمة القانونية الموجودة – قواعد مفصلة تنظم الحروب، والتي يتردد صداها مع مبادئ القانون الدولي الإنساني المعاصرة. وتزداد أهمية ذلك بالنسبة لنا في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، حيث إن العديد من أكبر عملياتنا تنفذ في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، مثل أفغانستان ونيجيريا والصومال والسودان واليمن.
وفي مثل هذه السياقات، يعد الحوار المستمر الذي نجريه مع أطراف النزاعات المسلحة وغيرها أمرا بالغ الأهمية لتحسين وصول المساعدات الإنسانية، وتعزيز احترام القانون الدولي الإنساني وقبول العمل الإنساني المحايد والمستقل وغير المتحيز الذي تضطلع به اللجنة الدولية.
واليوم، نشهد توجها خطيرا يتمثل في خفض معايير الامتثال للقانون الدولي الإنساني. يجب إيقاف هذا التوجه وعكسه. وهذا ما نسعى إلى تحقيقه من خلال “المبادرة العالمية للقانون الدولي الإنساني” الجديدة التي أطلقت في أيلول/سبتمبر الماضي في الجمعية العامة للأمم المتحدة مع ست دول (البرازيل، والصين، وفرنسا، والأردن، وكازاخستان، وجنوب أفريقيا.) وتهدف هذه المبادرة إلى حشد الدعم السياسي للالتزام بالقانون الدولي الإنساني. وهو تتناول التحديات الرئيسية التي تواجه القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك سير الأعمال العدائية، وهو موضوع يقع في صميم الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالحروب. ولذلك يسرني أن جدول أعمال هذا المؤتمر يتناول هذه المسألة الهامة.
ولتعزيز احترام القانون الدولي الإنساني، تدرك اللجنة الدولية أنه من الأهمية بمكان بناء الجسور بين القانون الدولي الإنساني والأديان والتقاليد والأطر المعيارية الأخرى. ويسمح ذلك بتعزيز قواعد القانون الدولي الإنساني ومبادئه بشكل أكثر فعالية، من خلال ترسيخها في بيئات وتقاليد متنوعة. ولهذا السبب أقمنا حوارا مثمرا مع قادة الأديان، بمن فيهم علماء المسلمين، على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية. ويساعد هذا الحوار على بناء أرضية مشتركة في النزاعات المسلحة، ويعمل على نقل رسائل قوية إلى المجتمعات المحلية وحاملي السلاح وصناع القرار. يمكن أن يساعد ذلك في إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة وحماية البشرية من ويلات الحروب.
وفي الختام، اسمحوا لي أصحاب السعادة، الضيوف الكرام، أن أؤكد أن هذا المنتدى يتيح فرصة مهمة للعمل من أجل تعزيز احترام القانون الدولي الإنساني.
ويطيب لي في هذا المقام أن أشيد بسلطنة عُمان وكلية العلوم الشرعية التابعة لها، والسيد رئيس مجلس الدولة على تنظيم هذا المؤتمر، وأتمنى لكم مناقشات مثمرة.
شكرا جزيلا لحسن استماعكم.
No Comment! Be the first one.