باسم الأم.. سلسلة عن الإجهاض وسياساته في مصر
في 2017 ساعدت صديقة في سعيها للإجهاض، كانت رحلة مرتبكة ومربكة، أنا وأصدقائي حاولنا المساعدة وكنا قليلي الخبرة ومحدودي الموارد، بينما ظلت هي مذعورة تواجه خيارات كلها قاسية، فبعد البحث والمرور على نحو سبعة أطباء، واجهت معاملة مهينة عند أحدهم، واستنكارًا متفاوت الحدة عند الآخرين، إلى أن تمكنتْ أخيرًا من إجراء العملية. أما أنا فبقيتُ أتساءل: لماذا يُجرَّم الإجهاض في مصر ويُجعل الوصول إليه بهذه الصعوبة؟ من وحي تجربة صديقتي، كتبت بحثًا قصيرًا صار لاحقًا نواة رسالتي للماجستير بعنوان «باسم الأم: سياسات الإجهاض في مصر وراء الدين والقانون»، ومنها أستوحي هذه السلسلة من المقالات.
حالة صديقتي ليست فردية، فرغم عدم وجود إحصائيات دقيقة عن عدد حالات الإجهاض العمدي، بسبب التجريم القانوني والوصم المجتمعي الذي يؤدي إلى إجرائها في سرية شديدة، توجد بعض المؤشرات، فوفقًا للأرقام الحكومية التي أعلنها وزير الصحة، خالد عبد الغفار، خلال المؤتمر الأول للصحة والسكان والتنمية الذي عُقد في العاصمة الإدارية الجديدة عام 2023 بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن واحدة من كل خمس حالات حمل في مصر غير مرغوب فيها، مما يحتمل أن تنتهي بالإجهاض.
يتفق هذا الرقم مع دراسات سابقة أشارت إلى أن نسبة الإجهاض تقارب خُمس (20%) حالات الحمل، مثل دراسة خالد ياسين عام 2000 عن الإجهاض في الريف المصري، وأخرى في السبعينيات بالإسكندرية، وثالثة من عام 1997 وجدت أن واحدة من كل خمس حالات تُحجز في أقسام الولادة بالمستشفيات مصرية تكون لعلاج مضاعفات ما بعد الإجهاض. كما قدّرت دراسة أن مصر شهدت أكثر من مليوني حالة إجهاض بين عامي 1995 و2000، نتج عنها 2542 وفاة بسبب ظروف الإجهاض غير الآمنة، وهي وفيات يمكن تفاديها، لأن الإجهاض اليوم واحد من أبسط الإجراءات الطبية.
كان البحث الذي كتبته إثر قصة صديقتي بعنوان «من أين يأتي التحريم؟» دراسة مقارنة بين القانون المصري الذي يجرّم الإجهاض، والقانون التونسي الذي يبيحه خلال الأشهر الثلاثة الأولى. افترضت أن التشدد المصري ضد الإجهاض، الذي يودي بالنساء إلى التهلكة، مصدره الشريعة الإسلامية، بينما القانون التونسي ليبرالي ﻷنه متأثر بالقانون الفرنسي، لكنني فوجئت بأن افتراضي خاطئ تمامًا، فمواد تجريم الإجهاض في القانون المصري مأخوذة من قانون العقوبات الفرنسي لعام 1810 (قانون نابليون)، كترجمة حرفية عن الأصل الفرنسي، في حين أن القانون التونسي المبيح متوافق مع بعض الآراء الفقهية في الشريعة الإسلامية.
شاركت بهذا البحث في المؤتمر الثاني ﻷبحاث القانون والمجتمع في إفريقيا بالجامعة الأمريكية في القاهرة، معتقدًا أن رحلتي مع هذا الموضوع انتهت، لكن حين بدأت الماجستير في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة أوروبا المركزية في فيينا عام 2019، كان السؤال الذي يشغلني هو آليات سيطرة السلطة علينا، وقدرتنا على مقاومتها أو الإفلات من تحكمها أو على الأقل تخفيف وطأتها. كان في ذهني عدة موضوعات يمكن الإجابة عن هذا السؤال من خلالها: السيطرة على المساحات الدينية، والتجنيد الإجباري، والسجن، إلخ. لكن نصحني أصدقاء كثيرون بالابتعاد عن الملفات الشائكة، فعدت إلى الإجهاض، خاصة أن بحثي الأول طرح أسئلة أخرى دون إجابة. لكن اختيار «موضوع آمن»، لم يحُل دون إيقافي، فقد اعتُقلت خلال إجازة بمصر في فبراير 2021، بتهمة نشر أخبار كاذبة، وقضيت عامًا ونصف في السجن حتى خروجي بعفو رئاسي في 30 يوليو 2022.
بعد خروجي، عدت إلى بحثي، وكانت إجابة بحثي الأول عن سؤالي: من أين يأتي التحريم؟ من القانون الفرنسي. لكن كانت هناك مفاجأة أخرى في انتظاري، فالقانون المصري الذي يفرض عقوبة الحبس على المرأة المجهضة ومَن يساعدها لمدة قد تصل إلى ثلاث سنوات، وتزيد للسجن المشدد الذي قد يصل إلى 15 عامًا إذا كان المساعد عاملًا في القطاع الطبي، غير مفعّل (1)، ولا يطبق إلا في حالات استثنائية مثل موت المرأة الحامل خلال الإجهاض، وحتى في هذه الحالة التي تستحضر فيها مواد القتل الخطأ مع مواد الإجهاض، يكتفي القضاة في الغالب بعقوبات مخففة؛ 6 أشهر أو سنة سجن، مع وقف التنفيذ.
ليتجدد السؤال: من أين يأتي التحريم؟ إذا كانت هناك مساحة سماح في الفقه الإسلامي للإجهاض، والقانون المأخوذ من الكود المدني الفرنسي غير مُطبق فعليًا، فلماذا يظل الوصول إلى الإجهاض شديد الصعوبة؟ هذا ما حاول بحثي الإجابة عنه، عبر رحلة من قسمين: الأول يتطرق إلى ديناميكيات السلطة والسيطرة على الأجساد في خمسة فصول: الدين، والقانون، والأمومة وسلطتها الرمزية، والدولة وسياساتها الديموغرافية، والطبقة بمحدداتها المادية والثقافية والاجتماعية. والثاني يبحث عن مساحات المقاومة للوصول إلى ما تريده النساء الساعيات للإجهاض، وذلك في ثلاثة فصول: المقاومة الفردية، والشبكات الصامتة، والعمل المؤسسي.
تبنيت مفهوم الفيلسوف الفرنسي، ميشيل فوكو، للسلطة والمقاومة، باعتبارهما غير منفصلين، بل يشكل أحدهما الآخر، فالسلطة في نظره ليست مجرد قوة قمعية تمارس من الأعلى إلى الأسفل، بل شبكة منتجة ومعقدة ومتشعبة من العلاقات تعمل على تشكيل الأفراد وإعادة إنتاجهم داخل أنماط وأدوار اجتماعية معينة. عند فوكو، لا تنحصر السلطة في الجهات السيادية وأدواتها القانونية والقضائية، فتلك مجرد واحدة من قوى متعددة تشكل المجتمع، وتتوزع في كل المؤسسات الاجتماعية: المدارس، والمستشفيات، والسجون، وحتى العائلة. هذا الفهم للسلطة يتجاوز تجلياتها في السرديات الكبرى مثل القانون أو الدين، ليركز على تحليل التفاعلات المباشرة التي تحدثها السلطة ومقاومتها في حياة الأفراد اليومية. من هنا، أحاول فهم تحريم وتجريم الإجهاض.
خلص البحث، كما يشير عنوانه، إلى أن الأمومة تعمل كسلطة رمزية، تتجاوز كونها دورًا اجتماعيًا للنساء، لتتحول إلى فكرة مركزية تتلاقى حولها الأطراف المختلفة للمجتمع، لتحتل مساحة أقرب إلى التقديس سياسيًا وقانونيًا ودينيًا وشعبيًا. ومن خلالها تؤطر النساء وسلوكياتهن وأدوارهن في المجتمع، وأي خروج على هذه السلطة الرمزية يواجه بالعقاب سواء اجتماعيًا أو قانونيًا.
ولفهم السياق الأوسع لهذه السلطة، يدرس البحث سياسات الإجهاض، والسياسة كما يفهمها هذا البحث هي تفاعلات سعي الأفراد لتحقيق ما يريدون، فلا يتوقف عند حدود التجريم الرسمي أو الاستنكار الاجتماعي للإجهاض، فكما رأينا من الإحصائيات، لا يمنع هذا التجريم أو التحريم إجراء الإجهاض ملايين المرات، ﻷسباب تتباين من الخوف من عواقب الإنجاب خارج إطار الزواج، حيث تواجه الوالدة والمولود وصمًا اجتماعيًا إن لم يكن ما هو أسوأ، أو في حالات الحمل الناتج عن الاغتصاب، أو حتى في حالة الزواج ﻷسباب اقتصادية ونفسية، أو بسبب رفض الإنجاب كلية. إجراء عمليات الإجهاض لكل هذه الأسباب وضع ليست مصر فيه استثناءً، بل يتطابق مع الإحصاءات والبيانات الصادرة في مختلف بلاد العالم، بغض النظر عن الوضع القانوني أو الإباحة الدينية أو القبول الاجتماعي للإجهاض من عدمه.
السياسة بهذا المفهوم مساحة تتلاقى فيها الأطراف كلها، من المؤسسات الرسمية (السياسية بالمفهوم التقليدي) مثل الوزارات والجهات الحكومية، أو التشريعية مثل البرلمان، والمؤسسات غير الحكومية دينية كانت أو مدنية، وصولًا إلى الأفعال الفردية المعزولة، أو ضمن حراكات شعبية تتقاطع مع المؤسسات أو تتجاهلها وتتفاعل بمعزل عنها، خصوصًا في مصر حيث تبدو المؤسسات الرسمية كيانات فوقية أمنية بعيدة عن المواطنين ومطالبهم.
درستُ الماجستير في جامعة أوروبية وكتبتُ رسالتي باللغة الإنجليزية، كما يفعل كثر من الباحثين. فبسبب فقر جامعاتنا وضعفها الأكاديمي، وزاد عليها في السنوات العشر الأخير تفاقم التدخلات الأمنية، التي وصلت في عهد السيسي إلى مستويات غير مسبوقة، يلجأ مئات، إن لم يكن آلاف، الأكاديميين للدراسة في الخارج والبحث والنشر بلغات مختلفة على رأسها اللغة الإنجليزية.
لكن مشكلة هذا المسار أن البحث ينتهي هناك، إذ تشجع الأكاديمية شيئًا من العزلة حتى عن البلاد التي تتكلم لغتها، وحتى حين يكون موضوع بحثها الاجتماعي الناس أنفسهم. يتفاقم الأمر حين يكون البحث بلغة غير لغة الناس ويُنشر في بلد آخر، ففي كثير من الأحيان تنقطع الصلة بين الطرفين تمامًا، ولا يحضر البشر إلا كعينات فقط، لا تختلف كثيرًا عن حيوانات المعمل، وهذه برأيي إشكالية ينبغي مواجهتها، فمن حق المجتمع المبحوث أن يعرف ما يكتب عنه، وأن يشتبك معه، ويستفيد منه إن كانت فيه فائدة.
لهذا كان ضروريًا أن أترجم البحث وأنشره باللغة العربية، أولًا ﻷنه لولا هذا المجتمع لما كنتُ، ولما كان بحثي، فهذا نوع من رد الجميل، وثانيًا للتفاعل مع الناس الذين درستهم، ويمس هذا البحث حياتهم بشكل مباشر، ﻷنه دون الاشتباك مع هذا المجتمع يبقى البحث بلا معنى. الكتابة بالعربية سعي ﻹبقاء البحث حيًا، بدلًا من أن يموت في الغربة على رفوف الجامعة الباردة، دون أن يُعرف بين ناسه.
(المواد 260 – 264 من قانون العقوبات)
No Comment! Be the first one.