
السيسي وقراران مفاجئان.. لماذا الآن؟
في أسبوع واحد، اتخذ الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قرارين مفاجئين: أعاد مشروع قانون الإجراءات الجنائية إلى مجلس النواب، وأصدر عفوا عن الناشط السياسي البارز علاء عبد الفتاح.
تزامن الخطوتين أثار تساؤلات واسعة حول مغزى التوقيت، وهل تعكس هذه الإجراءات تحولًا أعمق في مسار الدولة تجاه الحريات، أم أنها مجرد رسائل ظرفية مرتبطة بالحرب في غزة والملف الاقتصادي؟
سابقة دستورية نادرة
إعادة القوانين من الرئيس إلى البرلمان ليست أمرا متكررا في التاريخ المصري. فعلى مدار عقود، لم يحدث هذا إلا أربع مرات فقط: مرتين في عهد الرئيس أنور السادات، ومرة واحدة في عهد الرئيس الحالي، والآن المرة الرابعة مع قانون الإجراءات الجنائية.
هذه الندرة تمنح الخطوة الحالية ثقلًا سياسيًا ودستوريًا، خاصة أن القانون المطروح يمس جوهر العدالة الجنائية والحريات الفردية.
إعادة مشروع القانون إلى مجلس النواب تأتي في وقت دقيق؛ فالبرلمان الحالي يستعد لإنهاء مدته الدستورية بعد مرور خمس سنوات على انتخاب أعضائه عام 2020.
ومن المتوقع أن تُجرى الانتخابات التشريعية الجديدة قبل نهاية العام الجاري، ما يفتح نقاشًا جوهريًا: هل من المناسب أن يتولى مجلس على وشك الانتهاء من ولايته مناقشة قانون بهذا الحجم والتأثير؟ أم الأفضل ترك الأمر للبرلمان القادم الذي سيحمل تفويضًا شعبيًا جديدًا ووقتًا أطول لفتح حوار مجتمعي موسّع؟
النقابات رفضت والرئيس تدخل
القانون واجه منذ البداية رفضًا واسعًا من نقابتي الصحفيين والمحامين، ومن نادي القضاة، إضافة إلى حملات منظمة قادها نشطاء ومنظمات حقوقية.
هؤلاء رأوا أن مواد القانون، خاصة المتعلقة بالحبس الاحتياطي والمراقبة والمحاكمات عن بعد، تهدد بمزيد من التضييق على الحريات.
المحامي الحقوقي أحمد راغب، المقرر المساعد للجنة حقوق الإنسان بالحوار الوطني، يرى أن تدخل الرئيس يعكس “خطوة إيجابية”، موضحًا أن “موقع الرئاسة في مصر يسمح بلعب هذا الدور الدستوري، تمامًا كما حدث سابقًا مع قانون الجمعيات الأهلية 2017 حين اضطر الرئيس لإعادة النظر بعد صدوره”.
ويضيف راغب أن استجابة الرئاسة جاءت بعد أن “وصلت الأصوات المعترضة إلى طريق مسدود داخل البرلمان”، ما دفعها للجوء إلى الرئيس باعتباره صاحب الاختصاص الدستوري لوقف القانون.
ويشدد على أن الخطوة لا يجب أن تُقرأ بمعزل عن قرار الإفراج عن علاء عبد الفتاح، معتبرًا أن الاثنين “رسالة تفاؤل واصطفاف داخلي في لحظة إقليمية حرجة”.
هامش جديد؟
الإفراج عن علاء عبد الفتاح لم يكن مجرد حدث إنساني أو حقوقي، بل حمل رسالة سياسية، بالنسبة لكثيرين. وهم يعتبرون أن تزامن هذه الخطوة مع رد القانون يوحي بمحاولة لفتح هامش جديد، ولو محدود، للحريات.
راغب يرى أن القرارات تعكس “إدراكًا بأن المجتمع المصري يحتاج الآن إلى مزيد من التماسك الداخلي”، خصوصًا في ظل التهديدات الإقليمية، “وعلى رأسها الحرب في غزة ومخاطر التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء”.
يقول راغب “في هذه اللحظة، تحتاج مصر إلى اصطفاف وطني حقيقي، يشمل الحقوقيين والمعارضة المدنية، لا إلى إقصائهم”.
داخليًا، تبدو الصورة أكثر تعقيدًا: الاقتصاد يعاني من أعباء الدين والتزامات صندوق النقد الدولي، لكنه في الوقت نفسه يُظهر مؤشرات تحسن نسبي. التضخم السنوي في الحضر تراجع إلى نحو 12٪ في أغسطس 2025 (مقابل 13.9٪ في يوليو)، بينما انخفض التضخم الأساسي إلى 10.7٪، وفق بيانات البنك المركزي.
سعر الدولار الأميركي يستقر عند حدود 48 جنيها مع زيادة تدفقات العملة الصعبة، مستفيدا من صفقة رأس الحكمة مع الإمارات وبرنامج التمويل الممتد مع صندوق النقد الدولي.
هذه المؤشرات تمنح الحكومة متنفسًا نسبيًا، لكنها لا تلغي حجم الضغوط المعيشية القائمة.
ومن هنا يمكن قراءة خطوة إعادة قانون الإجراءات الجنائية والإفراج عن علاء عبد الفتاح كمحاولة لخلق تهدئة سياسية موازية، تواكب إشارات اقتصادية أكثر استقرارًا وتُرسل رسائل طمأنة إلى الداخل والخارج معا.
أصوات من الداخل: محمد الباقر
المحامي الحقوقي محمد الباقر، الذي خاض تجربة السجن، وكان أحد المشاركين في حملة “من أجل قانون عادل للإجراءات الجنائية”، يرى أن التغيير لا يقتصر على تعديل النصوص القانونية وحدها. ويقول بوضوح:
“الأمر يتجاوز النصوص القانونية. هناك عوامل أخرى أكثر أهمية ترتبط بالسياسات والممارسات. نحن بحاجة إلى تعديل السياسات والممارسات ذاتها. فالقوانين قد تضع إطارًا تنظيميًا وقواعد حاكمة وحماية واضحة، ولكن عندما تكون الممارسات خاضعة لسياسات أو أشخاص سياسيين، تنشأ إشكاليات كبيرة”.
ويضيف أن السنوات العشر الماضية شهدت ممارسات استثنائية نشأت نتيجة الصراع السياسي والاضطرابات الاحتجاجية، وهو ما انعكس على المحاكم:
“هذا أنتج سياسات للتعامل مع تلك الأوضاع، أدت إلى ظهور تصنيفات مثل (سجين سياسي) و(سجين جنائي)”، يقول.
أما بخصوص التوقيت، فيرى الباقر أن من الأفضل أن يترك البرلمان الحالي المجال للبرلمان القادم ليتولى المناقشة:
“رغم أن من المتوقع أن يكون حزب الأغلبية هو نفسه في البرلمان المقبل، فإن الإصلاح الحقيقي يتطلب فترة أطول لمناقشة مواد القانون وفلسفته. إذا كانت هناك رغبة صادقة من رئاسة الجمهورية في الإصلاح، فيجب استغلال هذه الفرصة وفتح الملف بصورة شاملة، لضمان خروج القانون في أفضل صورة ممكنة”.
مساحة مفتوحة للبرلمان
النائبة أميرة صابر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، أوضحت عبر صفحتها على فيسبوك أن حزبها كان التكتل البرلماني الوحيد الذي رفض مشروع القانون بالكامل، بعد أن تقدّم بعشرات التعديلات بالتعاون مع حقوقيين وخبراء، لكن الأغلبية البرلمانية لم تستجب له.
صابر رأت أن إعادة القانون من الرئيس تُثبت أن “الضغط البرلماني والحقوقي يمكن أن يُحدث فارقًا”، لكنها شددت في الوقت نفسه على أن الإصلاح الحقيقي يتطلب حوارًا واسعًا وتغييرات جوهرية لا تقتصر على تعديلات شكلية.
وفي بيان رسمي، رحّب الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي بخطوة الرئيس، معتبرًا أنها استجابة لمطالبه السابقة.
الحزب دعا إلى فتح حوار مجتمعي شامل تشارك فيه النقابات والقوى السياسية والخبراء، لضمان خروج نسخة جديدة من القانون تعبّر عن العدالة الجنائية الحقيقية للمصريين.
وفي مفارقة لافتة، المستشار محمود فوزي، وزير الشؤون النيابية والقانونية، كان قد أشاد في أبريل الماضي بقانون الإجراءات الجنائية ووصفه بالإنجاز الاستثنائي، لكنه عاد ليمدح قرار الرئيس بإعادته للبرلمان، معتبرًا أن الخطوة تعكس “ميلًا أكبر للحريات”.
كذلك أصدر مجلس النواب بيانًا رحّب فيه باعتراض الرئيس، واعتبره تجسيدًا لممارسة الصلاحيات الدستورية وحماية الحقوق، معلنًا إدراج مناقشة الاعتراض في أول جلسة للانعقاد الجديد مطلع أكتوبر بحضور رئيس الوزراء.
الرسالة الأوضح في هذا المشهد أن المعارضة الداخلية – ممثلة في النقابات، المنظمات الحقوقية، وبعض الأصوات البرلمانية – تمكنت من التأثير في مسار تشريع رئيسي من دون أن تُعامل كتهديد.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تمثل هذه الخطوات بداية لمسار أوسع من النقاش والإصلاح، أم أنها تظل إجراءات محدودة مرتبطة بسياقات سياسية واقتصادية آنية؟
الإجابة ستتضح مع انعقاد البرلمان الجديد، واستمرار المتغيرات الإقليمية والاقتصادية التي تفرض نفسها على المشهد المصري.
No Comment! Be the first one.